فصل: ذكر عزل مروان عن المدينة وولاية سعيد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


 ذكر عود عبد الرحمن إلى ولاية سجستان

في هذه السنة استعمل عبد الله بن عامر عبد الرحمن بن سمرة على سجستان فأتاها وعلى شرطته عباد بن الحصين الحبطي ومعه من الأشراف عمرو بن عبيد الله بن معمر وغيره فكان يغزو البلد قد كفر أهله فيفتحه حتى بلغ كابل فحصرها أشهرًا ونصب عليها مجانيق فثلمت سورها ثلمةً عظيمة فبات عليها عباد بن الحصين ليلةً يطاعن المشركين حتى أصبح فلم يقدروا على سدها وخرجوا من الغد يقاتلون فهزمهم المسلمون ودخلوا البلد عنوةً ثم سار إلى بست ففتحها عنوةً وسار إلى زران فهرب أهلها وغلب عليها ثم سار إلى خشك فصالحه أهلها ثم أتى الرخج فقاتلوه فظفر بهم وفتحها ثم سار إلى زابلستان وهي غزنة وأعمالها فقاتله أهلها وقد كانوا نكثوا ففتحها وعاد إلى كابل وقد نكث أهلها ففتحها‏.‏

 ذكر غزوة السند

استعمل عبد الله بن عامر على ثغر الهند عبد الله بن سوار العبدي ويقال ولاه معاوية من قبله فغزا القيقان فأصاب مغنمًا ووفد على معاوية وأهدى له خيلًا قيقانية ورجع فغزا القيقان فاستنجدوا بالترك فقتلوه وفيه يقول الشاعر‏:‏ وابن سوارٍ على عدانه موقد النار وقتال الشغب وكان كريمًا لم يوقد أحد في عسكره نارًا فرأى ذات ليلة نارًا فقال‏:‏ ما هذه قالوا‏:‏ امرأة نفساء يعمل لها الخبيص فأمر أن يطعم الناس الخبيص ثلاثة أيام‏.‏

 ذكر ولاية عبد الله بن خازم خراسان

قيل‏:‏ وفي هذه اسنة عزل عبد الله بن عامر قيس بن الهيثم القيسي ثم السلمي عن خراسان واستعمل عبد الله بن خازم‏.‏

وسبب ذلك أن قيسًا أبطأ بالخراج والهدية فقال عبد الله بن خازم لعبد الله بن عامر‏:‏ ولني خراسان أكفكها‏.‏

فكتب له عهده فبلغ ذلك قيسًا فخاف ابن خازم وشغبه فترك خراسان وأقبل‏:‏ فازداد ابن عامر غضبًا لتضييعه الثغر فضربه وحبسه وبعث رجلًا من يشكر على خراسان وقيل‏:‏ بعث أسلم بن زرعة الكلابي ثم ابن خازم‏.‏

وقيل في عزله غير ذلك وهو أن ابن خازم قال لابن عامر‏:‏ إنك استعملت على خراسان قيسًا وهو ضعيف وإني أخاف إن لقي حربًا أن ينهزم بالناس فتهلك خراسان وتفضح أخوالك يعني قيس عيلان‏.‏

قال ابن عامر‏:‏ فما الرأي قال‏:‏ تكتب لي عهدًا إن هو انصراف عن عدو قمت مقامه‏.‏

فكتب له‏.‏

وجاش جماعةٌ من طخارستان فشاوره قيس فأشار عليه ابن خازم أن ينصرف حتى يجتمع إليه أطرافه فلما سار مرحلة أو اثنتين أخرج ابن خازم عهده وقام بأمر الناس ولقي العدو فهزمهم وبلغ الخبر الكوفة والبصرة والشام فغضب القيسية وقالوا‏:‏ خدع قيسًا وابن عامر‏!‏ وشكوا إلى معاوية فاستقدمه فاعتذر مما قيل فيه فقال معاوية‏:‏ قم غدًا فاعتذر في الناس‏.‏

فرجع إلى أصحابه وقال‏:‏ إني أمرت بالخطبة ولست بصاحب كلامٍ فاجلسوا حول المنبر فإذا قلت فصدقوني‏.‏

فقام من الغد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ إنما يتكلف الخطبة إمامٌ لا يجد منها بدًا أو أحمق يهمر من رأسه ولست بواحد منهما وقد علم من عرفني أني بصير بالفرص وثاب إليها وقاف عند المهالك أنفذ بالسرية وأقسم بالسوية أنشد الله من عرف ذلك مني فليصدقني‏.‏

فقال أصحابه‏:‏ صدقت‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنك فيمن نشدت فقل بما تعلم‏.‏

فقال‏:‏ صدقت‏.‏

 ذكر عدة حوادث

وحج هذه السنة مروان بن الحكم وكان على المدينة وكان على مكة خالد ابن العاص بن هشام وعلى الكوفة المغيرة وعلى البصرة عبد الله بن عامر‏.‏

فيها مات عبد الله بن سلام وله صحبة مشهورة وهو من علماء أهل الكتاب وشهد له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالجنة‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وأربعين

في هذه السنة دخل المسلمون مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بلاد الروم وشتوا بها وغزا بسر بن أبي أرطأة في البحر‏.‏

  ذكر عزل عبد الله بن عامر عن البصرة

وسببه أن ابن عامر كان حليمًا كريمًا لينًا لا يأخذ على أيدي السفهاء وفسدت البصرة في أيامه فشكا ذلك إلى زياد فقال له‏:‏ جرد السيف‏.‏

فقال له‏:‏ إني أكره أن أصلحهم بفساد نفسي‏.‏

ثم إن ابن عامر وفد وفدًا من البصرة إلى معاوية فوافقوا عنده وفد الكوفة وفيهم ابن الكوا واسمه عبد الله بن أبي أوفى اليشكري فسألهم معاوية عن أهل العراق وعن أهل البصرة خاصة فقال ابن الكوا‏:‏ يا أمير المؤمنين إن أهل البصرة قد أكلهم سفاؤهم وضعف عنهم سلطانهم وعجز ابن عامر وضعفه‏.‏

فقال له معاوية‏:‏ تتكلم عن أهل البصرة وهم حضور فلما عاد أهل البصرة ابلغوا ابن عامر فغضب وقال‏:‏ أي أهل العراق أشد عداوةً لابن الكوا فقيل‏:‏ عبد الله بن أبي شيخ اليشكري فولاه خراسان فبلغ ذلك ابن الكوا فقال‏:‏ إن ابن دجاجة يعني ابن عامر قليل العلم في ظن أن ولاية عبد الله خراسان تسوءني‏!‏ لوددت أنه لم يبق يشكري إلا عاداني وأنه ولاه‏.‏

وقيل‏:‏ إن الذي ولاه ابن عامر خراسان طفيل بن عوف اليشكري‏.‏

فلما علم معاوية حال البصرة أراد عزل ابن عامر فأرسل إليه يستزيره فجاء إليه فرده على عمله فلما ودعه قال‏:‏ إني سائلك ثلاثًا فقل هن لك‏.‏

فقال‏:‏ هن لك وأنا ابن أم حكيم‏.‏

قال‏:‏ ترد علي عملي ولا تغضب‏.‏

قال‏:‏ قد فعلت‏.‏

قال‏:‏ وتهب لي مالك بعرفة‏.‏

قال‏:‏ قد فعلت‏.‏

قال‏:‏ وتهب لي دورك بمكة‏.‏

قال‏:‏ قد فعلت‏.‏

قال‏:‏ وصلتك رحم فقال ابن عامر‏:‏ يا أمير المؤمنين إني سائلك ثلاثًا فقل هن لك‏.‏

فقال‏:‏ هن لك وأنا ابن هند‏.‏

قال‏:‏ ترد علي مالي بعرفة‏.‏

قال‏:‏ قد فعلت‏.‏

قال‏:‏ ولا تحاسب لي عاملًا ولا تتبع لي أثرًا‏.‏

قال‏:‏ قد فعلت‏.‏

قال‏:‏ وتنكحني ابنتك هندًا‏.‏

قال‏:‏ قد فعلت‏.‏

ويقال‏:‏ إن معاوية قال له‏:‏ اختر إما أن أتبع أثرك وأحاسبك بما صار وأردك وإما أن أعزلك وأسوغك ما أصبت‏.‏

فاختار العزل وأن لا يسوغه ما أصاب فعزله وولى البصرة الحارث بن عبد الله الأزدي‏.‏

 ذكر استلحاق معاوية زيادًا

وفي هذه السنة استلحق معاوية زياد بن سمية فزعموا أن رجلًا من عبد القيس كان مع زياد لما وفد على معاوية فقال لزياد‏:‏ إن لابن عامر عندي يدًا فإن أذنت لي أتيته‏.‏

قال‏:‏ على أن تحدثني بما يجري بينك وبينه‏.‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

فأذن له فأتاه فقال له ابن عامر‏:‏ هيه هيه‏!‏ وابن سمية يقبح آثاري ويعرض بعمالي‏!‏ لقد هممت أن آتي بقسامةٍ من قريش يحلفون بالله أن أبا سفيان لم ير سمية‏.‏

فلما رجع سأله زياد فلم يخبره فألح عليه حتى أخبره فأخبر زيادٌ بذلك معاوية‏.‏

فقال معاوية لحاجبه‏:‏ إذا جاء ابن عامر فاضرب وجه دابته عن أقصى الأبواب‏.‏

ففعل ذلك به‏.‏

فأتى ابن عامر يزيد فشكا ذلك إليه فركب معه حتى أدخله فلما نظر إليه معاوية قام فدخل فقال يزيد لابن عامر‏:‏ اجلس فكم عسى أن تقعد في البيت عن مجلسه‏!‏ فلما أطالا خرج معاوية وهو يتمثل‏:‏ لنا سباقٌ ولكم سباق قد علمت ذلكم الرفاق ثم قعد فقال‏:‏ يا ابن عامر أنت القائل في زياد ما قلت أما والله لقد علمت العرب أني كنت أعزها في الجاهلية وأن الإسلام لم يزدني إلا عزًا وأني لم أتكثر بزياد من قلة ولم أتعزز به من ذلة ولكن عرفت حقًا له فوضعته موضعه‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين نرجع إلى ما يحب زياد‏.‏قال‏:‏ إذًا نرجع إلى ما تحب‏.‏

فخرج ابن عامر إلى زياد فترضاه‏.‏

فلما قدم زياد الكوفة قال‏:‏ قد جئتكم في أمر ما طلبته إلا لكم‏.‏

قالوا‏:‏ ما تشاء قال‏:‏ تلحقون نسبي بمعاوية‏.‏

قالوا‏:‏ أما بشهادة الزور فلا‏.‏

فأتى البصرة فشهد له رجال‏.‏

هذا جميع ما ذكره أبو جعفر في استلحاق معاوية نسب زياد ولم يذكر حقيقة الحال في ذلك إنما ذكر حكايةً جرت بعد استلحاقه وأنا أذكر سبب ذلك وكيفيته فإنه من الأمور المشهورة

وكان ابتداء حاله أن سمية أم زياد كانت لدهقان زندورد بكسكر فمرض الدهقان فدعا الحارث بن كلدة الطبيب الثقفي فعالجه فبرأ فوهبه سمية فولدت عند الحارث أبا بكرة واسمه نفيعٍ فلم يقر به ثم ولدت نافعًا فلم يقر به أيضًا فلما نزل أبو بكرة إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين حصر الطائف قال الحارث لنافع‏:‏ أنت ولدي‏.‏

وكان قد زوج سمية من غلام له اسمه عبيد وهو رومي فولدت له زيادًا‏.‏

وكان أبو سفيان بن حرب سار في الجاهلية إلى الطائف فنزل على خمار يقال له أبو مريم السلولي وأسلم أبو مريم بعد ذلك وصحب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال أبو سفيان لأبي مريم‏:‏ قد اشتهيت النساء فالتمس لي بغيًا فقال له‏:‏ هل لك في سمية فقال‏:‏ هاتها على طول ثدييها وذفر بطنها‏.‏

فأتاه بها فوقع عليها فعلقت بزياد ثم وضعته في السنة الأولى من الهجرة فلما كبر ونشأ استكتبه أبو موسى الأشعري لما ولي البصرة ثم إن عمر بن الخطاب استكفى زيادًا أمرًا فقام فيه مقامًا مرضيًا فلما عاد إليه حضر وعند عمر المهاجرون والأنصار فخطب خطبةً لم يسمعوا بمثلها‏.‏

فقال عمرو ابن العاص‏:‏ لله هذا الغلام لو كان أبوه من قريش لساق العرب بعصاه‏!‏ فقال أبو سفيان وهو حاضر‏:‏ والله إني لأعرف أباه ومن وضعه في رحم أمه‏.‏

فقال علي‏:‏ يا أبا سفيان اسكت فإنك لتعلم أن عمر لو سمع هذا القول منك لكان إليك

فلما ولي علي الخلافة استعمل زيادًا على فارس فضبطها وحمى قلاعها واتصل الخبر بمعاوية فساءه ذلك وكتب إلى زياد يتهدده ويعرض له بولادة أبي سفيان إياه فلما قرأ زياد كتابه قام في الناس وقال‏:‏ العجب كل العجب من ابن آكلة الأكباد ورأس النفاق‏!‏ يخوفني بقصده إياي وبيني وبينه ابنا عم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المهاجرين والأنصار أما والله لو أذن لي في لقائه لوجدني أحمز مخشيًا ضرابًا بالسيف‏.‏

وبلغ ذلك عليًا فكتب إليه‏:‏ إني وليتك ما وليتك وأنا أراك له أهلًا وقد كانت من أبي سفيان فلتة من أماني الباطل وكذب النفس لا توجب له ميراثًا ولا تحل له نسبًا وإن معاوية يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله فاحذر ثم احذر والسلام‏.‏

فلما قتل علي وكان من أمر زياد ومصالحته معاوية ما ذكرناه واضع زيادٌ مصقلة بن هبيرة الشيباني وضمن له عشرين ألف درهم ليقول لمعاوية‏:‏ إن زيادًا قد أكل فارس برًا وبحرًا وصالحك على ألفي ألف درهم والله ما أرى الذي يقال إلا حقًا فإذا قال لك‏:‏ وما يقال فقل‏:‏ يقال إنه ابن أبي سفيان‏.‏

ففعل مصقلة ذلك ورأى معاوية أن يستميل زيادًا واستصفى مودته باستلحاقه فاتفقا على ذلك وأحضر الناس وحضر من يشهد لزياد وكان فيمن حضر أبو مريم السلولي فقال له معاوية‏:‏ بم يشهد يا أبا مريم فقال‏:‏ أنا أشهد أن أبا سفيان حضر عندي وطلب مني بغيًا فقلت له‏:‏ ليس عندي إلا سمية فقال‏:‏ إيتني بها على قذرها ووضرها فأتيته بها فخلا معها ثم خرجت من عنده وإن إسكتيها لتقطران منيًا‏.‏

فقال له زياد‏:‏ مهلًا أبا مريم‏!‏ إنما بعثت شاهدًا ولم تبعث شاتمًا‏.‏

فاستلحقه معاوية وكان استلحاقه أول ما ردت أحكام الشريعة علانيةً فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قضى بالولد للفراش وللعاهر الحجر‏.‏وكتب زياد إلى عائشة‏:‏ من زياد بن أبي سفيان وهو يريد أن تكتب له‏:‏ إلى زياد بن أبي سفيان فيحتج بذلك فكتبت‏:‏ من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها زياد‏.‏

وعظم ذلك على المسلمين عامة وعلى بني أمية خاصة وجرى أقاصيص يطول بذكرها الكتاب فأضربنا عنها‏.‏

ومن اعتذر لمعاوية قال‏:‏ إنما استلحق معاوية زيادًا لأن أنكحة الجاهلية كانت أنواعًا لا حاجة إلى ذكر جميعها وكان منها أن الجماعة يجامعون البغي فإذا حملت وولدت ألحقت الولد لمن شاءت منهم فيلحقه فلما جاء الإسلام حرم هذا النكاح إلا أنه أقر كل ولد كان ينسب إلى أب من أي نكاح كان من أنكحتهم على نسبه ولم يفرق بين شيء منها فتوهم معاوية أن ذلك جائز له ولم يفرق بين استلحاق في الجاهلية والإسلام وهذا مردود لاتفاق المسلمين على إنكاره ولأنه لم يستلحق أحد في الإسلام مثله ليكون به حجة‏.‏

قيل‏:‏ أراد زياد أن يحج بعد أن استلحقه معاوية فسمع أخوه أبو بكرة وكان مهاجرًا له من حين خالفه في الشهادة بالزنا على المغيرة بن شعبة فلما سمع بحجه جاء إلى بيته وأخذ ابنًا له وقال له‏:‏ يا بني قل لأبيك إنني سمعت أنك تريد الحج ولابد من قدومك إلى المدينة ولاشك أن تطلب الاجتماع بأم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن أذنت لك فأعظم به خزيًا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإن منعتك فأعظم به فضيحة في الدنيا وتكذيبًا لأعدائك‏.‏

فترك زياد الحج وقال‏:‏ جزاك الله خيرًا فقد أبلغت في النصح‏.‏

 ذكر غزو المهلب السند

وفيها غزا المهلب بن أبي صفرة ثغر السند فأتى بنة والأهور وهما بين الملتان وكابل فلقيه العدو وقاتله ولقي المهلب ببلاد القيقان ثماية عشر فارسًا من الترك فقاتلوه فقتلوا جميعًا فقال المهلب‏:‏ ما جعل هؤلاء الأعاجم أولى بالتشمير منا‏!‏ فحذف الخيل وكان أول من حذفها من المسلمين وفي يوم بنة يقول الأزدي‏:‏ ألم تر أن الأد ليلة بيتوا ببنة كانوا خير جيش المهلب

 ذكر عدة حوادث

وحج بالناس في هذه السنة معاوية‏.‏

وفيها عمل مروان بن الحكم المقصورة بالمدينة وهو أول من عملها بها وكان معاوية قد عملها بالشام لما ضربه الخارجي‏.‏

وفيها توفيت أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏وفيها قتل رفاعة العدوي من عدي رباب وهو بصري له صحبة‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وأربعين

فيها ولى معاوية الحارث بن عبد الله الأزدي البصرة في أولها حين عزل ابن عامر وهو من أهل الشام فاستعمل الحارث على شرطته عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي فبقي الحارث أميرًا على البصرة أربعة أشهر ثم عزله وولاها زيادًا‏.‏

 ذكر ولاية زياد بن أبيه البصرة

قدم زيادٌ الكوفة فأقام ينتظر إمارته عليها فقيل ذلك للمغيرة بنشعبة فسار إلى معاوية فاستقاله الإمارة وطلب منه أن يعطيه منازل بقرقيسيا ليكون بين قيس فخافه معاوية وقال له‏:‏ لترجعن إلى عملك‏.‏

فأبى فازداد معاوية تهمةً له فرده على عمله فعاد إلى الكوفة ليلًا وأرسل إلى زياد فأخرجه منها وقيل‏:‏ إن المغيرة لم يسر إلى الشام وإنما معاوية أرسل إلى زياد وهو بالكوفة فأمره بالمسير إلى البصرة فولاه البصرة وخراسان وسجستان ثم جمع له الهند والبحرين وعمان فقدم البصرة آخر شهر ربيع الآخر سنة خمس وأربعين والفسق ظاهر فاشٍ فخطبهم خطبته البتراء لم يحمد الله فيها وقيل‏:‏ بل حمد الله فقال‏:‏ الحمد لله على إفضاله وإحسانه ونسأله مزيدًا من نعمه اللهم كما زدتنا نعمًا فألهمنا شكرًا على نعمك علينا‏!‏ أما بعد فإن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والفجر الموقد لأهله النار الباقي عليهم سعيرها ما يأتي سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام فينبت فيها الصغير ولا يتحاشى عنها الكبير كأن لم تسمعوا نبي الله ولم تقرأوا كتاب الله ولم تعلموا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته والعذاب الأليم لأهل معصيته في الزمن السرمد الذي لا يزول أتكونوا كمن طرفت عينه الدنيا وسدت مسامعه الشهوات واختار الفانية على الباقية ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه هذه المواخير المنصوبة والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر والعدد غير قليل ألم تكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج الليل وغارة النهار قربتم القرابة وباعدتم الدين تعتذرون بغير العذر وتعطفون على المختلس كل امرىء منكم يذب عن سفيهه صنيع من لا يخاف عاقبة ولا يخشى معادًا‏!‏ ما أنتم بالحلماء ولقد اتبعتم السفهاء فلم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام ثم أطرقوا وراءكم كنوسًا في مكانس الريب حرام علي الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدمًا وإحراقًا‏!‏ إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله لين في غير ضعف وشدة في غير جبرية وعنف وإني لأقسم بالله لأخذن الولي بالولي والمقيم بالظاعن والمقبل بالمدبر والصحيح منكم بالسقيم حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول‏:‏ انج سعد فقد هلك سعيد أو تستقيم لي قناتكم إن كذبة المنبر تبقى مشهورة فإذا تعلقتم علي بكذبة فقد حلت لكم معصيتي من بيت منكم فأنا ضامن لما ذهب له إياي ودلج الليل فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه وقد أجلتكم في ذلك بقدر ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إليكم وإياي ودعوى الجاهلية فإني لا أجد أحدًا دعا بها إلا قطعت لسانه‏.‏

وقد أحدثتم أحداثًا لم تكن وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة فمن غرق قومًا غرقناه ومن حرق على قوم حرقناه ومن نقب بيتًا نقبت عن قلبه ومن نبش قبرًا دفنته فيه حيًا فكفوا عني أيديكم وألسنتكم أكفف عنكم لساني ويدي وإياي لا يظهر من أحد منكم خلاف ما عليه عامتكم إلا ضربت عنقه وقد كانت بيني وبين أقوام إحنٌ فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي فمن كان منكم محسنًا فليزدد إحسانًا ومن كان مسيئًا فلينزع عن إساءته‏.‏

إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعًا ولم أهتك له سترًا حتى يبدي لي صفحته فإذا فعل لم أناظره فاستأنفوا أموركم وأعينوا على أنفسكم فرب مبتئسٍ بقدومنا سيسر ومسرور بقدومنا سيبتئس‏.‏

أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسةً وعنكم ذادةً نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا ولكم علينا العدل فيما ولينا فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم واعلموا أني مهما قصرت عنه فإني لا أقصر عن ثلاث‏:‏ لست محتجبًا عن طالب حاجة منكم ولو أتاني طارقًا بليل ولا حابسًا رزقًا ولا عطاء عن إبانه ولا مجمرًا لكم بعثًا فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم فإنهم ساستكم المؤدبون وكهفكم الذي إليه تأوون ومتى تصلحوا يصلحوا ولا تشربوا قلوبكم بغضهم فيشتد لذلك غيظكم ويطول له حزنكم ولا تدركوا حاجتكم مع أنه لو استجيب لكم لكان شرًا لكم أسأل الله أن يعين كلًا على كل فإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فأنفذوه على أذلاله وإن لي فيكم لصرعى كثيرة فليحذر كل امرىء منكم أن يكون من صرعاي‏.‏

فقام إليه عبد الله بن الأهتم فقال‏:‏ أشهد أيها الأمير أنك أوتيت الحكمة وفصل الخطاب‏.‏

فقال‏:‏ كذبت ذاك نبي الله داود‏!‏ فقال الأحنف‏:‏ قد قلت فأحسنت أيها الأمير والثناء بعد البلاء والحمد بعد العطاء وإنا لن نثني حتى نبتلي‏.‏

فقال زياد‏:‏ صدقت‏.‏

فقام إليه أبو بلال مرداس بن أدية وهو من الخوارج وقال‏:‏ أنبأ الله بغير ماقلت قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرةٌ وزر أخرى وأن ليس للإنسان ما سعى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 37‏:‏ 39‏]‏‏.‏ فأوعدنا الله خيرًا مما أوعدتني يا زياد‏.‏

فقال زياد‏:‏ إنا لا نجد إلى ما تريد أنت وأصحابك سبيلًا حتى نخوض إليها الدماء‏.‏

واستعمل زياد على شرطته عبد الله بن حصن وأجل الناس حتى بلغ الخبر الكوفة وعاد إليه وصول الخبر فكان يؤخر العشاء الآخرة ثم يصلي فيأمر رجلًا أن يقرأ سورة البقرة أو مثلها يرتل القرآن فإذا فرغ أمهل بقدر ما يرى أن إنسانًا يبلغ أقصى البصرة ثم يأمر صاحب شرطته بالخروج فيخرج فلا يرى إنسانًا إلا قتله فأخذ ذات ليلة أعرابيًا فأتى به زيادًا فقال‏:‏ هل سمعت النداء فقال‏:‏ لا والله‏!‏ قدمت بحلوبة لي وغشيني الليل فاضطررتها إلى موضع وأقمت لأصبح ولا علم لي بما كان من الأمير‏.‏

فقال‏:‏ أظنك والله صادقًا ولكن في قتلك صلاح الأمة‏.‏

ثم أمر به فضربت عنقه‏.‏

وكان زياد أول من شدد أمر السلطان وأكد الملك لمعاوية وجرد سيفه وأخذ بالظنة وعاقب على الشبهة وخافه الناس خوفًا شديدًا حتى أمن بعضهم بعضًا وحتى كان الشيء يسقط من يد الرجل أو المرأة فلا يعرض له أحد حتى يأتيه صاحبه فيأخذه ولا يغلق أحد وأدر العطاء وبنى مدينة الرزق وجعل الشرط أربعة آلاف وقيل له‏:‏ إن السبيل مخوفة‏.‏

فقال‏:‏ لا أعاني شيئًا وراء المصر حتى أصلح المصر فإن غلبني فغيره أشد غلبة منه‏.‏

فلما ضبط المصر وأصلحه تكلف ما وراء ذلك فأحكمه‏.‏

 ذكر عمال زياد

استعان زياد بعدة من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منهم‏:‏ عمران بن حصين الخزاعي ولاه قضاء البصرة وأنس بن مالك وعبد الرحمن بن سمرة وسمرة بن جندب‏.‏

فأما عمران فاستعفى من القضاء فأعفاه‏.‏

واستقضى عبد الله بن فضالة الليثي ثم أخاه عاصمًا ثم زرارة بن أوفى وكانت أخته عند زياد‏.‏

وقيل إن زيادًا أول من سير بين يديه بالحراب والعمد واتخذ الحرس رابطة خمسمائة لا يفارقون المسجد‏.‏

وجعل خراسان أرباعًا واستعمل على مرو أمير بن أحمر وعلى نيسابور خليد بن عبد الله الحنفي وعلى مرو الروذ والفارياب والطالقان قيس ابن الهيثم وعلى هراة وباذغيس وبوشنج نافع بن خالد الطاحي ثم عتب عليه فعزله‏.‏

وسبب تغيره عليه أن نافعًا بعث بخوان باذرهر إلى زياد قوائمه منه فأخذ نافع منها قائمة وعمل مكانها قائمة من ذهب وبعث الخوان مع غلام له اسمه زيد وكان يلي أمور نافع كلها فسعى زيدٌ بنافع إلى زياد وقال‏:‏ إنه خانك وأخذ قائمة الخوان‏.‏

فعزله زياد وحبسه وكتب عليه كتابًا بمائة ألف وقيل‏:‏ بثمانمائة ألف فشفع فيه رجالٌ من وجوه الأزد فأطلقه‏.‏واستعمل الحكم بن عمرو الغفاري وكانت له صحبة وكان زياد قال لحاجبه‏:‏ ادع لي الحكم يريد الحكم بن أبي العاص الثقفي ليوليه خراسان فخرج حاجبه فرأى الحكم بن عمرو الغفاري فاستدعاه فحين رآه زياد قال له‏:‏ ما أردتك ولكن الله أرادك‏!‏ فولاه خراسان وجعل معه رجالًا على جباية الخراج منهم‏:‏ أسلم بن زرعة الكلابي وغيره‏.‏

وغزا الحكم طخارستان فغنم غنائم كثيرة ثم مات واستخلف أنس بن أبي أناس بن زنيم فعزله زياد وكتب إلى خليد بن عبد الله الحنفي بولاية خراسان ثم بعث الربيع بن زياد الحارثي في خمسين ألفًا من البصرة والكوفة‏.‏

 ذكر عدة حوادث

وحج بالناس هذه السنة مروان بن الحكم وكان على المدينة‏.‏

وفيها مات زيد بن ثابت الأنصاري وقيل‏:‏ سنة خمس وخمسين وعاصم ابن عدي الأنصاري البلوي وكان بدريًا وقيل‏:‏ لم يشهدها بل رده رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة وضرب له بسهمه وكان عمره مائة وعشرين سنة‏.‏

وفيها مات سلمة بن سلامة بن وقش الأنصاري بالمدينة وشهد العقبة وبدرًا وكان عمره سبعين سنة‏.‏

وفيها توفي ثابت بن الضحاك بن خليفة الكلابي وهو من أصحاب الشجرة وهو أخو أبي جبيرة بن الضحاك‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وأربعين

في هذه السنة كان مشتى مالك بن عبد الله بأرض الروم وقيل‏:‏ بل كان ذلك عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وقيل‏:‏ بل كان مالك بن هبيرة السكوني‏.‏وفيها انصرف عبد الرحمن بن خالد من بلاد الروم إلى حمص ومات‏.‏

 ذكر وفاة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد

وكان سبب موته أنه كان قد عظم شأنه عند أهل الشام ومالوا إليه لما عندهم من آثار أبيه ولغنائه في بلاد الروم ولشدة بأسه فخافه معاوية وخشي على نفسه منه وأمر ابن أثال النصراني أن يحتال في قتله وضمن له أن يضع عنه خراجه ما عاش وأن يوليه جباية خراج حمص‏.‏ فلما قدم عبد الرحمن من الروم دس إليه ابن أثال شربةً مسمومة مع بعض مماليكه فشربها فمات بحمص فوفى له معاوية بما ضمن له‏.‏

وقدم خالد بن عبد الرحمن بن خالد المدينة فجلس يومًا إلى عروة بن الزبير فقال له عروة ما فعل ابن أثال فقام من عنده وسار إلى حمص فقتل ابن أثال فحمل إلى معاوية فحبسه أيامًا ثم غرمه ديته ورجع خالد إلى المدينة فأتى عروة فقال عروة‏:‏ ما فعل ابن أثال فقال‏:‏ قد كفيتك ابن أثال ولكن ما فعل ابن جرموز يعني قاتل الزبير فسكت عروة‏.‏

 ذكر خروج سهم والخطيم

وفيها خرج الخطيم وهو يزيد بن مالك الباهلي وسهم بن غالب الهجيمي فحكما فأما سهم فإنه خرج إلى الأهواز فحكم بها ثم رجع فاختفى وطلب الأمان فلم يؤمنه زياد وطلبه حتى أخذه وقتله وصلبه على بابه‏.‏

وأما الخطيم فإن زيادًا سيره إلى البحرين ثم أقدمه وقال لمسلم بن عمرو الباهلي والد قتيبة بن مسلم‏:‏ اضمنه فأبى وقال‏:‏ إن بات خارجًا عن بيته أعلمتك ثم أتاه مسلم فقال له‏:‏ لم يبت الخطيم الليلة في بيته فأمر به فقتل وألقي في باهلة وقد تقدم ذلك أتم من هذا وإنما ذكرناه ها

 ذكر عدة حوادث

وحج بالناس هذه السنة عتبة بن أبي سفيان وكان العمال من تقدم ذكرهم‏.‏

وفيها توفي صالح بن كيسان مولى بني غفار وقيل‏:‏ مولى بني عامر وقيل‏:‏ الخزاعي‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وأربعين

في هذه السنة كان مشتى مالك بن هبيرة بأرض الروم ومشتى عبد الرحمن القيني بأنطاكية‏.‏

 ذكر عزل عبد الله بن عمرو عن مصر وولاية ابن حديج

وفيها عزل عبد الله بن عمرو بن العاص عن مصر ووليها معاوية بن حديج وكان عثمانيًا فمر به عبد الرحمن بن أبي بكر فقال له‏:‏ يا معاوية قد أخذت جزاءك من معاوية قد قتلت أخي محمد بن أبي بكر لتلي مصر فقد وليتها‏.‏

فقال‏:‏ ما قتلت محمدًا إلا بما صنع بعثمان‏.‏

فقال عبد الرحمن‏:‏ فلو كنت إنما تطلب بدم عثمان لما شاركت معاوية فيما صنع حيث عمل عمرو بالأشعري ما عمل فوثبت أول الناس فبايعته‏.‏

 ذكر غزوة الغور

في هذه السنة سار الحكم بن عمرو إلى جبال الغور فغزا من بها وكانوا ارتدوا فأخذهم بالسيف عنوةً وفتحها وأصاب منها مغانم كثيرة وسبايا ولما رجع الحكم من هذه الغزوة مات بمرو في قول بعضهم وكان الحكم قد قطع النهر في ولايته ولم يفتح‏.‏

وكان أول المسلمين شرب من النهر مولى للحكم اغترف بترسه فشرب وناوله الحكم فشرب وتوضأ وصلى ركعتين وكان أول المسلمين فعل ذلك ثم رجع‏.‏

 ذكر مكيدة للمهلب

وكان المهلب مع الحكم بن عمرو بخراسان وغزا معه بعض جبال الترك فغنموا وأخذ الترك عليهم الشعاب والطرق فعيي الحكم بالأمر فولى المهلب الحرب فلم يزل يحتال حتى أسر عظيمًا من عظماء الترك فقال له‏:‏ إما أن تخرجنا من هذا الضيق أو لأقتلنك‏.‏فقال له‏:‏ أوقد النار حيال طريق من هذه الطرق وسير الأثقال نحوه فإنهم سيجتمعون فيه ويخلون ما سواه من الطرق فبادرهم إلى طريق آخر فما يدركونكم حتى تخرجوا منه ففعل ذلك فسلم الناس بما معهم من الغنائم‏.‏

وحج بالناس هذه السنة عتبة بن أبي سفيان وقيل‏:‏ عنبسة بن أبي سفيان وكان الولاة من تقدم ذكرهم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وأربعين

فيها كان مشتى عبد الرحمن القيني بأنطاكية‏.‏

وصائفة عبد الله بن قيس الفزاري‏.‏وغزوة مالك بن هبيرة السكوني البحر‏.‏

وغزوة عقبة بن عامر الجهني بأهل مصر والبحر وبأهل المدينة‏.‏

وفيها استعمل زياد غالب بن فضالة الليثي على خراسان وكانت له صحبة‏.‏

وحج بالناس مروان وهو يتوقع العزل لموجدة كانت مع معاوية عليه وارتجع معاوية منه فدك وكان وهبها له وكان ولاة الأمصار من تقدم ذكرهم‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وأربعين

فيها كان مشتى مالك بن هبيرة بأرض الروم‏.‏

وفيها كانت غزوة فضالة ابن عبيد حزة وشتا بها وفتحت على يده وأصاب فيها شيئًا كثيرًا‏.‏

وفيها كانت صائفة عبد الله بن كرز البجلي‏.‏

وفيها كانت غزوة يزيد بن شجرة الرهاوي في البحر فشتا بأهل الشام‏.‏

وفيها كانت غزوة عقبة بن نافع البحر فشتا بأهل مصر‏.‏

في هذه السنة وقيل‏:‏ سنة خمسين سير معاوية جيشًا كثيفًا إلى بلاد الروم للغزاة وجعل عليهم سفيان بن عوف وأمر ابنه يزيد بالغزاة معهم فتثاقل واعتل فأمسك عنه أبوه فأصاب الناس في غزاتهم جوعٌ ومرض شديد فأنشأ يزيد يقول‏:‏ ما إن أبالي بما لاقت جموعهم بالفرقدونة من حمى ومن موم إذا اتكأت على الأنماط مرتفقًا بدير مروان عندي أم كلثوم وأم كلثوم امرأته وهي ابنة عبد الله بن عامر‏.‏

فبلغ معاوية شعره فأقسم عليه ليلحقن بسفيان في أرض الروم ليصيبه ما أصاب الناس فسار ومعه جمع كثير أضافهم إليه أبوه وكان في الجيش ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبو أيوب الأنصاري وغيرهم وعبد العزيز ابن زرارة الكلابي فأوغلوا في بلاد الروم حتى بلغوا القسطنطينية فاقتتل المسلمون والروم في بعض الأيام واشتدت الحرب بينهم فلم يزل عبد العزيز يتعرض للشهادة فلم يقتل فأنشأ يقول‏:‏ قد عشت في الدهر أطوارًا على طرقٍ شتى فصادفت منها اللين والبشعا كلًا بلوت فلا النعماء تبطرني ولا تجشمت من لأوائها جزعا لا يملأ الأمر صدري قبل موقعه ولا أضيق به ذرعًا إذا وقعا ثم حمل على من يليه فقتل فيهم وانغمس بينهم فشجره الروم برماحهم حتى قتلوه رحمه الله‏.‏

فبلغ خبر قتله معاوية فقال لأبيه‏:‏ والله هلك فتى العرب‏!‏ فقال‏:‏ ابني أو ابنك قال‏:‏ ابنك فآجرك الله‏.‏

فقال‏:‏ فإن يكن الموت أودى به وأصبح مخ الكلابي زيرا فكل فتىً شاربٌ كأسه فإما صغيرًا وإما كبيرا ثم رجع يزيد والجيش إلى الشام وقد توفي أبو أيوب الأنصاري عند القسطنطينية فدفن بالقرب من سورها فأهلها يستسقون به وكان قد شهد بدرًا وأحدًا والمشاهد كلها مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشهد صفين مع علي وغيرها من حروبه‏.‏

 ذكر عزل مروان عن المدينة وولاية سعيد

وفيها عزل معاوية مروان بن الحكم عن المدينة في ربيع الأول وأمر سعيد ابن العاص عليها في ربيع الآخر وقيل‏:‏ في ربيع الأول وكانت ولاية مروان كلها بالمدينة لمعاوية ثماني سنين وشهرين وكان على قضاء المدينة عبد الله بن الحارث بن نوفل فعزله سعيد حين ولي واستقضى أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف‏.‏رضي الله عنه في هذه السنة توفي الحسن بن علي سمته زوجته جعدة بنت الأشعث ابن قيس الكندي ووصى أن يدفن عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا أن تخاف فتنة فينقل إلى مقابر المسلمين فاستأذن الحسين عائشة فأذنت له فلما توفي أرادوا دفنه عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم يعرض إليهم سعيد بن العاص وهو الأمير فقام مروان بن الحكم وجمع بني أمية وشيعتهم ومنع عن ذلك فأراد الحسين الامتناع فقيل له‏:‏ إن أخاك قال‏:‏ إذا خفتم الفتنة ففي مقابر المسلمين وهذه فتنة‏.‏

فسكت وصلى عليه سعيد بن العاص فقال له الحسين‏:‏ لولا أنه سنة لما تركتك تصلي عليه‏.‏

 ثم دخلت سنة خمسين

فيها كانت غزوة بسر بن أبي أرطأة وسفيان بن عوف الأزدي أرض الروم وغزوة فضالة بن عبيد الأنصاري في البحر‏.‏

 ذكر وفاة المغيرة بن شعبة

في هذه السنة في شعبان كانت وفاة المغيرة بن شعبة في قول بعضهم وهو الصحيح وكان الطاعون قد وقع بالكوفة فهرب المغيرة منه فلما ارتفع الطاعون عاد إلى الكوفة فطعن فمات‏.‏

وكان طوالًا أعور ذهبت عينه يوم اليرموك وتوفي وهو ابن سبعين سنة وقيل‏:‏ كان موته سنة إحدى وخمسين وقيل‏:‏ سنة تسع وأربعين‏.‏

فلما مات المغيرة استعمل معاوية زيادًا على الكوفة والبصرة وهو أول من جمعتا له‏.‏

فلما وليها سار إليها واستخلف على البصرة سمرة بن جندب وكان زياد يقيم بالوفة ستة أشهر وبالبصرة ستة أشهر فلما وصل الكوفة خطبهم فحصب وهو على المنبر فجلس حتى أمسكوا ثم دعا قومًا من خاصته فأمرهم فأخذوا أبواب المسجد ثم قال‏:‏ ليأخذ كل رجل منكم جليسه ولا يقولن لا أدري من جليسي ثم أمر بكرسي فوضع له على باب المسجد فدعاهم أربعةً أربعةً يحلفون‏:‏ ما منا من حصبك فمن حلف خلاه ومن لم يحلف حبسه حتى صار إلى ثلاثين وقيل‏:‏ إلى ثمانين فقطع أيديهم على المكان‏.‏

وكان أول قتيل قتله زياد بالكوفة أوفى بن حصن وكان بلغه عنه شيء فطلبه فهرب فعرض الناس زياد فمر به فقال‏:‏ من هذا قال‏:‏ أوفى بن حسن‏.‏

فقال زياد‏:‏ أتتك بحائن رجلاه‏.‏

وقال له‏:‏ ما رأيك في عثمان قال‏:‏ ختن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ابنتيه‏.‏

قال‏:‏ فما تقول في معاوية قال‏:‏ جواد حليم‏.‏

قال‏:‏ فما تقول في قال‏:‏ بلغني أنك قلت بالبصرة والله لآخذن البريء بالسقيم والمقبل بالمدبر‏.‏

قال‏:‏ قد قلت ذاك‏.‏

قال‏:‏ خبطتها عشواء‏!‏ فقال زياد‏:‏ ليس النفاخ بشر الزمرة‏!‏ فقتله‏.‏

ولما قدم زيادٌ الكوفة قال له عمارة بن عقبة بن أبي معيط‏:‏ إن عمرو ابن الحمق يجمع إليه شيعة أبي تراب‏.‏

فأرسل إليه زياد‏:‏ ما هذه الجماعات عندك من أردت كلامه ففي المسجد‏.‏

وقيل‏:‏ الذي سعى بعمرو ويزيد بن رويم‏.‏فقال له زياد‏:‏ قد أشطت بدمه ولو علمت أن مخ ساقه قد سال من بغضي ما هجته حتى يخرج علي‏.‏

فاتخذ زياد المقصورة حين حصب‏.‏

فلما استخلف زيادٌ سمرة على البصرة أكثر القتل فيها فقال ابن سيرين‏:‏ قتل سمرة في غيبة زياد هذه ثمانية آلاف‏.‏

فقال له زياد‏:‏ أتخاف أن تكون قتلت بريئًا فقال‏:‏ لو قتلت معهم مثلهم ما خشيت‏.‏

وقال أبو السوار العدوي‏:‏ قتل سمرة من قومي في غداة واحدة سبعة وأربعين كلهم قد جمع القرآن‏.‏

وركب سمرة يومًا فلقي أوائل خيله رجلًا فقتلوه فمر به سمرة وهو يتشحط في دمه فقال‏:‏ ما هذا فقيل‏:‏ أصابه أوائل خيلك‏.‏

فقال‏:‏ إذا سمعتم بنا قد ركبنا فاتقوا أسنتنا‏.‏

 ذكر خروج قريب

وفيها خرج قريب الأزدي وزحاف الطائي بالبصرة وهما ابنا خالة وزياد بالكوفة وسمرة على البصرة فأتيا بني ضبيعة وهم سبعون رجلًا وقتلوا منهم شيخًا وخرج على قريب وزحاف شباب من بني علي وبني راسب فرموهم بالنبل وقتل عبد الله بن أوس الطاحي قريبًا وجاء برأسه‏.‏

واشتد زياد في أمر الخوارج فقتلهم وأمر سمرة بذلك فقتل منهم بشرًا كثيرًا‏.‏

وخطب زياد على المنبر فقال‏:‏ يا أهل البصرة والله لتكفنني هؤلاء أو لأبدأن بكم‏!‏ والله لئن أفلت منهم رجل لا تأخذون العام من عطائكم درهمًا‏!‏ فثار الناس بهم فقتلوهم‏.‏

 ذكر إرادة معاوية

نقل المنبر من المدينة وفي هذه السنة أمر معاوية بمنبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يحمل من المدينة إلى الشام وقال‏:‏ لا يترك هو وعصا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمدينة وهم قتلة عثمان وطلب العصا وهو عند سعد القرظ فحرك المنبر فكسفت الشمس حتى رؤيت النجوم باديةً فأعظم الناس ذلك فتركه‏.‏

وقيل‏:‏ أتاه جابر وأبو هريرة وقالا له‏:‏ يا أمير المؤمنين لا يصلح أن تخرج منبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من موضع وضعه ولا تنقل عصاه إلى الشام فانقل المسجد‏.‏

فتركه فلما ولي عبد الملك بن مروان هم بالمنبر فقال له قبيصة بن ذؤيب‏:‏ أذكرك الله أن تفعل‏!‏ إن معاوية حركه فكسفت الشمس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من حلف على منبري آثمًا فليتبوأ مقعده من النار‏)‏‏.‏ فتخرجه من المدينة وهو مقطع الحقوق عندهم بالمدينة‏!‏ فتركه عبد الملك‏.‏

فلما كان الوليد ابنه وحج هم بذلك فأرسل سعيد بن المسيب إلى عمر ابن عبد العزيز فقال‏:‏ كلم صاحبك لا يتعرض للمسجد ولا لله والسخط له‏.‏

فكلمه عمر فتركه‏.‏

ولما حج سليمان بن عبد الملك أخبره عمر بما كان من الوليد فقال سليمان‏:‏ ما كنت أحب أن يذكر عن أمير المؤمنين عبد الملك هذا ولا عن الوليد ما لنا ولهذا‏!‏ أخذنا الدنيا فهي في أيدينا ونريد أن نعمد إلى علم من أعلام الإسلام يوفد إليه فنحمله إلى ما قبلنا‏!‏ هذا ما لا يصلح‏!‏‏.‏

وفيها عزل معاوية بن حديج السكوني عن مصر ووليها مسلمة بن مخلد مع إفريقية وكان معاوية بن أبي سفيان بعث قبل أن يولي مسلمة إفريقية ومصر عقبة بن نافع إلى إفريقية وكان اختط قيروانها وكان موضعه غيضة لا ترام من السباع والحيات وغيرها فدعا الله عليها فلم يبق منها شيء إلا خرج هاربًا حتى إن كانت السباع لتحمل أولادها هاربة بها وبنى الجامع‏.‏

فلما عزل معاوية بن أبي سفيان بن حديج السكوني عن مصر عزل عقبة عن إفريقية وجمعها لمسلمة بن مخلد فهو أول من جمع له المغرب مع مصر فولى مسلمة إفريقية مولى له يقال له أبو المهاجر فلم يزل عليها حتى هلك معاوية بن أبي سفيان‏.‏

 ذكر ولاية عقبة بن نافع إفريقية وبناء مدينة القيروان

قد ذكر أبو جعفر الطبري أن في هذه السنة ولي مسلمة بن مخلد إفريقية وأن عقبة ولي قبله إفريقية وبنى القيروان والذي ذكره أهل التاريخ من المغاربة‏:‏ أن ولاية عقبة بن نافع إفريقية كانت هذه السنة وبنى القيروان ثم بقي إلى سنة خمس وخمسين ووليها مسلمة بن مخلد وهم أخبر ببلادهم وأنا أذكر ما أثبتوه في كتبهم‏:‏ قالوا‏:‏ إن معاوية بن أبي سفيان عزل معاوية بن حديج عن إفريقية حسب واستعمل عليها عقبة بن نافع الفهري وكان مقيمًا ببرقة وزويلة مذ فتحها أيام عمرو بن العاص وله في تلك البلاد جهاد وفتوح‏.‏

فلما استعمله معاوية سير إليه عشرة آلاف فارس فدخل إفريقية وانضاف إليه من أسلم من البربر فكثر جمعه ووضع السيف في أهل البلاد لأنهم كانوا إذا دخل إليهم أمير أطاعوا وأظهر بعضهم الإسلام فإذا عاد الأمير عنهم نكثوا وارتد من أسلم ثم رأى أن يتخذ مدينة يكون بها عسكر المسلمين وأهلهم وأموالهم ليأمنوا من ثورة تكون من أهل البلاد فقصد موضع القيروان وكان أجمةً مشتبكة بها من أنواع الحيوان من السباع والحيات وغير ذلك فدعا الله وكان مستجاب الدعوة ثم نادى‏:‏ أيتها الحيات والسباع إنا أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ارحلوا عنا فإنا نازلون ومن وجدناه بعد ذلك قتلناه‏.‏

فنظر الناس ذلك اليوم إلى الدواب تحمل أولادها وتنتقل فرآه قبيلٌ كثير من البربر فأسلموا وقطع الأشجار وأمر ببناء المدينة فبنيت وبنى المسجد الجامع وبنى الناس مساجدهم ومساكنهم وكان دورها ثلاثة آلاف باع وستمائة باع وتم أمرها سنة خمس وخمسين وسكنها الناس وكان في أثناء عمارة المدينة يغزو ويرسل السرايا فتغير وتنهب ودخل كثير من البربر في الإسلام واتسعت خطة المسلمين وقوي جنان من هناك من الجنود بمدينة القيروان وأمنوا واطمأنوا على المقام فثبت الإسلام فيها‏.‏

 ذكر ولاية مسلمة بن مخلد إفريقية

ثم إن معاوية بن أبي سفيان استعمل على مصر وإفريقية مسلمة بن مخلد الأنصاري فاستعمل مسلمة على إفريقية مولى له يقال له أبو المهاجر فقدم إفريقية وأساء عزل عقبة واستخف به

وسار عقبة إلى الشام وعاتب معاوية على ما فعله به أبو المهاجر فاعتذر إليه ووعده بإعادته إلى عمله وتمادى الأمر فتوفي معاوية وولي بعده ابنه يزيد فاستعمل عقبة بن نافع على البلاد سنة اثنتين وستين فسار إليها‏.‏

وقد ذكر الواقدي أن عقبة بن نافع ولي إفريقية سنة ست وأربعين واختط القيروان ولم يزل عقبة على إفريقية إلى سنة اثنتين وستين فعزله يزيد بن معاوية واستعمل أبا المهاجر مولى الأنصار فحبس عقبة وضيق عليه فلما بلغ يزيد ابن معاوية ما فعل بعقبة كتب إليه يأمره بإطلاقه وإرساله إليه ففعل ذلك ووصل عقبة إلى يزيد فأعاده إلى إفريقية واليًا عليها فقبض على أبي المهاجر وأوثقه وساق من خبر كسيلة مث ما نذكره إن شاء الله تعالى سنة اثنتين وستين‏.‏

 ذكر هرب الفرزدق من زياد

وفيها طلب زيادٌ الفرزدق استعدته عليه بنو نهشل وفقيم‏.‏

وسبب ذلك قال الفرزدق‏:‏ هاجيت الأشهب بن زميله والبعيث فسقطا فاستعدى علي بنو نهشل وبنو فقيم زياد بن أبيه واستعدى علي أيضًا يزيد ابن مسعود بن خالد بن مالك قال‏:‏ فلم يعرفني زياد حتى قيل له الغلام الأعرابي الذي أنهب ماله وثيابه فعرفني‏.‏

قال الفرزدق‏:‏ وكان أبي غالب قد أرسلني في جلب له أبيعه وأمتار له فبعت الجلب بالبصرة وجعلت ثمنه في ثوبي فعرض لي رجل فقال‏:‏ لشد ما تستوثق منها أما لو كان مكانك رجل أعرفه ما صر عليها‏.‏

فقلت‏:‏ ومن هو قال‏:‏ غالب بن صعصعة وهو أبو الفرزدق‏.‏

فدعوت أهل المربد ونثرتها‏.‏

فقال لي قائل‏:‏ ألق رداءك‏.‏

ففعلت‏.‏

فقال آخر‏:‏ ألق ثوبك‏.‏

ففعلت‏.‏

وقال آخر‏:‏ ألق عمامتك‏.‏

ففعلت‏.‏

فقال آخر‏:‏ ألق إزارك‏.‏

فقلت‏:‏ لا ألقيه وأمشي مجردًا إني لست بمجنون‏.‏

وبلغ الخبر زيادًا فقال‏:‏ هذا أحمق يضري الناس بالنهب فأرسل خيلًا إلى المربد ليأتوه بي فأتاني رجل من بني الهجيم على فرس له وقال‏:‏ النجاء النجاء‏!‏ وأردفني خلفه ونجوت فأخذ زياد عمين لي‏:‏ ذهيلًا والزحاف ابني صعصعة وكانا في الديوان فحبسهما أيامًا ثم كلم فيهما فأطلقهما وأتيت أبي فأخبرته خبري فحقدها عليه زياد‏.‏

ثم وفد الأحنف بن قيس وجارية بن قدامة السعديان والجون بن قتادة العبشمي والحتات بن يزيد أبو منازل المجاشعي إلى معاوية بن أبي سفيان فأعطى كل رجل منهم جائزة مائة ألف وأعطى الحتان سبعين ألفًا‏.‏

فلما كانوا في الطريق ذكر كل منهم جائزته‏.‏

فرجع الحتات إلى معاوية فقال‏:‏ ما ردك قال‏:‏ فضحتني في بني تميم‏!‏ أما حسبي صحيح أولست ذا سن ألست مطاعًا في عشيرتي قال‏:‏ بلى‏.‏

قال‏:‏ فما بالك خسست بي دون القوم وأعطيت من كان عليك أكثر ممن كان لك وكان حضر الجمل مع عائشة وكان الأحنف وجارية يريدان عليًا وإن كان الأحنف والجون اعتزلا القتال مع علي لكنهما كانا يريدانه‏.‏

قال‏:‏ إني اشتريت من القوم دينهم ووكلتك إلى دينك ورأيك في عثمان وكان عثمانيًا‏.‏

فقال‏:‏ وأنا فاشتر مني ديني‏.‏

فأمر له بإتمام جائزته ثم مات الحتات فحبسها معاوية فقال الفرزدق في ذلك شعر‏:‏ أبوك وعمي يا معاوي أورثا تراثًا فيحتاز التراث أقاربه فما بال ميراث الحتات أخذته وميراث صخر جامدٌ لك ذائبه فلو كان هذا الأمر في جاهليةٍ علمت من المرء القليل حلائبه ولو كان في دينٍ سوى ذا شنئتم لنا حقنا أو غص بالماء شاربه وأنشد محمد بن علي ألست أعز الناس قومًا وأسرةً وأمنعهم جارًا إذا ضيم جانبه وما ولدت بعد النبي وآله كمثلي حصانٌ في الرجال يقاربه وبيتي إلى جنب الثريا فناؤه ومن دونه البدر المضيء كواكبه أنا ابن الجبال الشم في عدد الحصى وعرق الثرى عرقي فمن ذا يحاسبه نمته فروع المالكين ولم يكن أبوك الذي من عبد شمسٍ يقاربه تراه كنصل السيف يهتز للندى كريمًا يلاقي المجد ما طر شاربه طويل نجاد السيف مذ كان لم يكن قصيٌّ وعبد الشمس ممن يخاطبه يريد بالمالكين مالك بن حنظلة ومالك بن زيد مناة بن تميم وهما جداه‏.‏

لأن الفرزدق ابن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم‏.‏

فلما بلغ معاوية شعره رد على أهله ثلاثين ألفًا فأغضبت أيضًا زيادًا عليه فلما استعدت عليه نهشل وفقيم ازداد عليه غضبًا فطلبه فهرب وأتى عيسى ابن خصيلة السلمي ليلًا وقال له‏:‏ إن هذا الرجل قد طلبني وقد لفظني الناس وقد أتيتك لتغيثني عندك‏.‏

فقال‏:‏ مرحبًا بك‏.‏

فكان عنده ثلاث ليال‏.‏

ثم قال له‏:‏ قد بدا لي أن آتي الشام فسيره‏.‏

وبلغ زيادًا مسيره فأرسل في أثره فلم يدرك وأتى الروحاء فنزل في بكر بن وائل فأمن ومدحهم بقصائد‏.‏

ثم كان زياد إذا نزل البصرة نزل الفرزدق الكوفة وإذا نزل الكوفة نزل الفرزدق البصرة فبلغ ذلك زيادًا فكتب إلى عامله على الكوفة وهو عبد الرحمن بن عبيد يأمره بطلب الفرزدق ففارق الكوفة نحو الحجاز فاستجار بسعيد بن العاص فأجاره فمدحه الفرزدق ولم يزل وقد قيل‏:‏ إن الفرزدق إنما قال هذا الشعر لأن الحتات لما أسمل آخى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بينه وبين معاوية فلما مات الحتات بالشام ورثه معاوية بتلك الأخوة فقال الفرزدق هذا الشعر‏.‏

وهذا القول ليس بشيء لأن معاوية لم يكن يجهل أن هذه الأخوة لا يرث بها أحد‏.‏

الحتات بضم الحاء وبتائين مثناتين من فوقهما بينهما ألف‏.‏

 ذكر وفاة الحكم بن عمرو الغفاري

في هذه السنة توفي الحكم بن عمرو الغفاري بمرو بعد انصرافه من غزوة جبل الأشل في قول وقد تقدم ذكر وفاته في قول آخر وكان زياد قد كتب إليه‏:‏ إن أمير المؤمنين معاوية أمرني أن أصطفي له الصفراء والبيضاء فلا تقسم بين الناس ذهبًا ولا فضة‏.‏فكتب إليه الحكم‏:‏ بلغني ما أمر به أمير المؤمنين وإني وجدت كتاب الله قبل كتابه وإنه والله لو أن السموات والأرض كانتا رتقًا على عبد ثم اتقى الله لجعل له فرجًا ومخرجًا ثم قال للناس‏:‏ اغدوا على أعطياتكم ومالكم فقسمه بينهم ثم قال‏:‏ اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك‏.‏

فتوفي بمرو‏.‏ وله صحبة‏.‏